الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (86- 87): {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحةِ وهو مبتدأ خبرُه قولُه تعالى: {الذين اشتروا} أي آثروا {الحياة الدنيا} واستبدلوها {بالاخرة} وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذُكر من الكفر ببعض أحكامِ الكتاب إنما كان لمراعاة جانبِ حلفائِهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافعِ الدينيةِ والدنيوية {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} دنيوياً كان أو أُخروياً {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يدفعه عنهم شفاعةً أو جبراً، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ الاسمية على الفعلية، أو ينصرون مفسِّرٌ لمحذوف قبل الضمير، فيكونُ من عطف الفعلية على مثلها {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} شروعٌ في بيانِ بعضٍ آخرَ من جناياتهم، وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار كمالِ الاعتناءِ به، والمرادُ بالكتاب التوراة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يُطق ذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا حملَها فخففها الله تعالى لموسى فحملها {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} يقال: قفّاه به إذا أتبعه إياه، أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} وهم يوشَعُ وأشمَويلُ وشمعونُ وداودُ وسليمانُ وشَعْيا وأرميا وعُزيرٌ وحزْقيل وإلياسُ واليسعُ ويونسُ وزكريا ويحيى وغيرُهم عليهم الصلاة والسلام {وءاتَيْنَا عيسى ابن مَرْيَمَ البينات} المعجزاتِ الواضحاتِ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمَهِ والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات، أو الإنجيلَ وعيسى بالسريانية إيشوُعُ ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فُسر قولُ رؤبة:ووزنه مِفْعل إذ لم يثبت فعيل {وأيدناه} وقرئ {وآيدناه} {بِرُوحِ القدس} بضم الدال وقرئ بسكونها أي بالروح المقدسة، وهي روحُ عيسى عليه السلام كقولك: حاتمُ الجود ورجلُ صدقٍ وإنما وُصِفت بالقدْس لكرامته، أو لأنه عليه السلام لم تضُمَّه الأصلابُ ولا أرحامُ الطوامِث، وقيل: بجبريلَ عليه السلام وقيل: بالإنجيل كما قيل: في القرآن {رُوحاً من أمرنا} وقيل: باسم الله الأعظم الذي يُحيي الموتى بذكره، وتخصيصُه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفُه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييدِ بروح القدسِ لما أن بِعْثتَهم كانت لتنفيذ أحكامِ التوراة وتقريرِها، وأما عيسى عليه السلام فقد نُسخ بشرعه كثيرٌ من أحكامها ولحسم مادةِ اعتقادِهم الباطلِ في حقه عليه السلام ببيان حقّيتِه وإظهارِ كمالِ قُبح ما فعلوا به عليه السلام {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ} من أولئك الرسل {بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم} من الحق الذي لا محيدَ عنه أي لا تحبُّه، من هِويَ كفرح إذا أحب، والتعبيرُ عنه بذلك للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ، وتوسيطُ الهمزة بين الفاء وما تعلّقت به من الأفعال السابقةِ لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا، أو للتعجب من شأنهم، ويجوز كونُ الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام، أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسولٌ منهم بما لا تهوى أنفسكم {استكبرتم} عن الاتباع له والإيمانِ بما جاء به من عند الله تعالى {فَفَرِيقًا} منهم {كَذَّبْتُمْ} من غير أن تتعرضوا لهم بشيءٍ آخرَ من المضارِّ، والفاءُ للسببية أو للتعقيب {وَفَرِيقًا} آخرَ منهم {تَقْتُلُونَ} غيرَ مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى عليهما السلام، وتقديمُ {فريقاً} في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ، أو للإيماء إلى أنهم بعْدُ على تلك النية، حيث همُّوا بما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحَروه وسمُّوا له الشاةَ حتى قال صلى الله عليه وسلم: .تفسير الآية رقم (88): {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}{وَقَالُواْ} بيانٌ لفنٍ آخرَ من قبائحهم على طريق الالتفاتِ إلى الغَيْبة إشعاراً بإبعادهم عن رُتبة الخِطاب لِمَا فُصِّل من مخازيهم الموجبةِ للإعراض عنهم وحكايةِ نظائرِها لكل من يفهم بُطلانها وقباحتَها من أهل الحق، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي عليه الصلاة والسلام {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمعُ أَغْلَفَ، مستعار من الأغلف الذي لم يُختَنْ أي مُغشّاة بأغشية جِبِلِّيةٍ لا يكاد يصلُ إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقَهُه كقولهم قلوبُنا في أكِنّة مما تدعونا إليه وقيل: هو تخفيفُ غلُفٌ جمع غِلاف، ويؤيده ما رُوي عن أبي عمرو من القراءة بضمتين، يعنون أن قلوبنا أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاءٌ.وقال الكلبي: يعنون أن قلوبَنا لا يصل إليها حديثٌ إلا وعَتْه ولو كان في حديثك خيرٌ لوعتْه أيضاً {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} ردٌّ لما قالوه وتكذيبٌ لهم في ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم الله سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاّهم وشأنَهم بسبب كفرهم العارضِ وإبطالِهم لاستعدادهم بسوء اختيارِهم بالمرة وكونِهم بحيث لا ينفعهم الإلطاف أصلاً بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكنِ من قبول الحق. وعلى الثاني بل أبعدهم من رحمته فأنى لهم ادعاءُ العلمِ الذي هو أجلُّ آثارِها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤديَ إليها {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} ما مزيدة للمبالغة أي فإيماناً قليلاً يؤمنون وهو إيمانُهم ببعض الكتاب وقيل: فزماناً قليلاً يؤمنون وهو ما قالوا: {آمنوا بالذي أنزِل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفُروا آخره} وكلاهما ليس بإيمان حقيقةً، وقيل: أريد بالقِلة العدمُ. والفاءُ لسببية اللعن لعدم الإيمان..تفسير الآية رقم (89): {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}{وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب} هو القرآن، وتنكيرُه للتفخيم ووصفُه بقوله عز وجل: {مِنْ عِندِ الله} أي كائنٌ من عنده تعالى للتشريف {مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة عُبر عنها بذلك لما أن المعيةَ من موجبات الوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدّي إلى العلم بكونه مصدقاً لهما، وقرئ {مصدّقاً} على أنه حال من كتاب لتخصصه بالوصف {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيئِه {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} أي وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمانِ الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم: قد أظل زمانُ نبيَ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإِرَمَ. قال ابن عباس وقتادة والسدي: نزلت في بني قُرَيظةَ والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثِه وقيل: معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويُعرِّفونهم بأن نبياً يُبعث منهم قد قرُب أوانُه والسين للمبالغة كما في استعجب أي يسألون من أنفسهم الفتحَ عليهم أو يسأل بعضُهم بعضاً أن يَفتحَ عليهم. وعلى التقديرين فالجملة حاليةٌ مفيدةٌ لكمال مكابرتِهم وعنادِهم، وقولُه عز وعلا: {فَلَمَّا جَاءهُمُ} تكريرٌ للأول لطول العهد بتوسط الجملةِ الحاليةِ، وقولُه تعالى: {مَّا عَرَفُواْ} عبارةٌ عما سلف من الكتاب لأن معرفةَ من أنزل عليه هو معرفةٌ له، والاستفتاحُ به استفتاح به، وإيرادُ الموصولِ دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمالِ مكابرتِهم، فإن معرفةَ ما جاءهم من مبادئ الإيمان به ودواعيه لا محالةَ والفاء للدلالة على تعقيب مجيئِه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدةٌ منسيةٌ له وقوله تعالى: {كَفَرُواْ بِهِ} جوابُ (لمّا) الأولى كما هو رأيُ المبرِّد أو جوابُهما معاً كما قاله أبو البقاء وقيل: جوابُ الأولى محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فيكونُ قولُه تعالى: وكانوا إلخ جملةً معطوفةً على الشرطية عطفَ القصة على القصة والمرادُ بـ {ما عرفوا} النبيُّ صلى الله عليه وسلم، كما هو المراد بما {كانوا يستفتحون به} فالمعنى ولما جاءهم كتابٌ مصدقٌ لكتابهم كذّبوه وكانوا من قبل مجيئِه يستفتحون بمن أُنزل عليه ذلك الكتابُ فلما جاءهم النبيُّ الذي عرَفوه كفروا به {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} اللامُ للعهد أي عليهم، ووضعُ المظهرِ موضِعَ المُضْمَرِ للإيذان بأن حلولَ اللعنةِ بسبب كفرِهم كما أن الفاءَ للإيذان بترتبها عليه، أو للجنس وهم داخلون في الحُكم دخولاً أولياً إذ الكلامُ فيهم، وأياً ما كان فهو محقِّقٌ لمضمون قوله تعالى: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ}.تفسير الآيات (90- 91): {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}{بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} ما نكرةٌ بمعنى شيء، منصوبةٌ مفسِّرةٌ لفاعلِ بئس، واشتَروا صفتُه أو بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم، وقيل: اشترَوْها به في زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلّصوها من العقاب ويأباه أنه لابد أن يكون المذمومُ ما كان حاصلاً لهم لا ما كان زائلاً عنهم، والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى: {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله} أي الكتابِ المصدّقِ لما معهم بعد الوقوف على حقيقته، وتبديلُ الإنزال بالمجيء للإيذان بعلوِّ شأنه الموجبِ للإيمان به {بَغِيّاً} حسداً وطلباً لما ليس لهم، وهو علةٌ لأن يكفُروا حتماً دون {اشتروا} لما قيل من الفصل بما هو أجنبيٌّ بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبياً بالنسبة إلى فعل الذمِّ وفاعلِه، ولأن البغيَ مما لا تعلقَ له بعُنوان البيعِ قطعاً لاسيما وهو معلَّلٌ بما سيأتي من تنزيل الله تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذي بينه وبينه علاقةٌ هو كفرُهم بما أنزل الله، والمعنى بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم كفرُهم المعلَّلُ بالبغي الكائنِ لأجل {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ} الذي هو الحي {على مَن يَشَاء} أي يشاؤه ويصطفيه {مِنْ عِبَادِهِ} المستأهِلين لتحمُّل أعباءِ الرسالةِ، ومآلُه تعليلُ كفرِهم بالمنزل عليه، وإيثارُ صيغةِ التفعيل هاهنا للإيذان بتجدد بغْيهم حسَب تجدُّدِ الإنزالِ وتكثُّره حسب تكثره {فَبَاءو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} أي رجعوا متلبسين بغضبٍ كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا مِنْ كفر على كفر فإنهم كفروا بنبيّ الحقِّ وبغَوْا عليه وقيل كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد عيسى، وقيل: بعد قولِهم: عزيرٌ بن الله وقولهم: يد الله مغلولة وغير ذلك من فنون كفرهم {وللكافرين} أي لهم والإظهار في موقع الإضمارِ للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يراد به إهانتُهم وإذلالُهم لما أن كفرَهم بما أنزل الله تعالى كان مبيناً على الحسد المبنيّ على طمع المنزولِ عليهم وادعاءِ الفضلِ على الناس والاستهانةِ بمن أنزل عليه عليه السلام.{وَإِذَا قِيلَ} من جانب المؤمنين {لَهُمْ} أي لليهود، وتقديمُ الجار والمجرور قد مر وجهه لاسيما في لام التبليغ {آمنوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} من الكتب الإلهية جميعاً والمرادُ به الأمرُ بالإيمان بالقرآن لكن سُلك مسلكُ التعميم إيذاناً بتحتُّم الامتثالِ من حيث مشاركتُه لما آمنوا به فيما في حيِّز الصلةِ وموافقتِه له في المضمون وتنبيهاً على أن الإيمانَ بما عداه من غير إيمانٍ به ليس بإيمان بما أنزل الله {قَالُواْ نُؤْمِنُ} أي نستمر على الإيمان {بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوراةَ وما نزَلَ على أنبياءِ بني إسرائيلَ لتقرير حكمَها، ويدسُّون فيه أن ما عدا ذلك غيرُ منزّلٍ عليهم، ومرادُهم بضمير المتكلم إما أنفسُهم فمعنى الإنزالِ عليهم تكليفُهم بما في المنزَّل من الأحكام، وإما أنبياءُ بني إسرائيلَ وهو الظاهرُ لاشتماله على مزيَّة الإيذانِ بأن عدمَ إيمانِهم بالفُرقان لما مرَّ من بغيهم وحَسَدِهم على نزوله على من ليس منهم، ولأن مرادَهم بالموصول وإن كان هو التوراةُ وما في حكمها خاصةً لكنّ إيرادَها بعنوان الإنزالِ عليهم مبنيٌّ على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريضِ كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزَمُ من مغايرَةَ القرآنِ لما أُنزل عليهم حسبما يُعرب عنه قوله عز وجل: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} عدمُ كونِهم مكلَّفين بما فيه كما يلزَم عدمَ كونِه نازلاً على واحد من بني إسرائيلَ على الوجه الأخير، وتجريدُ الموصول عن الإضمارِ عما عرَّضوا به تعسُّفٌ لا يخفى، والوراء في الأصل مصدر جُعل ظرفاً ويضاف إلى الفاعل فيرادُ به ما يتوارى به وهو خلْفُه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامُه، والجملةُ حال من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المرادُ مجردَ بيانِ أن إفرادَ إيمانِهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفي إيمانِهم بما وراءه، بل بيانِ أن ما يدّعون من الإيمان ليس بإيمانٍ بما أنزل عليهم حقيقةً فإن قولَه عز اسمُه: {وَهُوَ الحق} أي المعروفُ بالحقيقة بأن يُخَصَّ به اسمُ الحقِ على الإطلاق، حال من فاعل يكفُرون وقوله تعالى: {مُصَدّقاً} حالٌ مؤكدة لمضمون الجملةِ صاحبُها إما ضميرُ الحق وعاملَها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء، وإما ضميرٌ دل عليه الكلامُ وعاملها فعلٌ مضمرٌ، أي أُحِقُّه مصدِّقاً {لّمَا مَعَهُمْ} من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفُرون بالقرآن والحال أنه حقٌّ مصدِّق لما آمنوا به فيلزمهم الكفرُ بما آمنوا به ومآ لُه أنهم ادَّعَوا الإيمانَ بالتوراة والحال أنهم يكفُرون بما يلزَمُ من الكفر به الكفرُ بها {قُلْ} تبكيتاً لهم من جهة الله عز من قائل ببيان التناقضِ بين أقوالِهم وأفعالِهم بعد بيانِ التناقضِ في أقوالهم {فَلَمْ} أصلُه لِمَا حُذفت عنه الألفُ فرقاً بين الاستفهامية والخبرية {تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ} الخطابُ للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل كان الاعتراضُ على أسلافهم اعتراضاً على أخلافِهم، وصيغةُ الاستقبال لحكايةَ الحالِ الماضية، وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعُمون فلأيِّ شيء كنتم تقتلون أنبياءَ الله من قبلُ وهو فيها حرامٌ، وقرئ {أنبئاءَ} الله مهموزاً، وقولُه تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تكريرٌ للاعتراض لتأكيد الإلزامِ وتشديدِ التهديدِ أي إن كنتم مؤمنين فلمَ تقتلونهم، وقد حُذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حُذف ثقةً بما أُثبتَ في الأخرى وقيل: لا حذفَ فيه بل تقديمُ الجواب على الشرط وذلك لا يتأتى إلا على رأي الكوفيين وأبي زيد وقيل: {إن} نافية أي ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم..تفسير الآية رقم (92): {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}{وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات} من تمام التبكيت والتوبيخِ، داخلٌ تحت الأمر، لا تكريرٌ لما قُصَّ في تضاعيف تعدادِ النعم التي من جملتها العفوُ عن عبادة العجلِ، واللامُ للقسم أي: وبالله لقد جاءكم موسى متلبّساً بالمعجزات الظاهرةِ التي هي العصا واليدُ والسِّنونَ ونقصُ الثمراتِ والدمُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ وفلْقُ البحرِ وقد عُدَّ منها التوراةُ وليس بواضح، فإن المجيءَ بها بعد قصةِ العجل {ثُمَّ اتخذتم العجل} أي إلها {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مجيئِه بها، وقيل: من بعد ذهابِه إلى الطور فتكونُ التوراةُ حينئذ من جملة البيناتِ وثم للتراخي في الرُتبة والدلالة على نهايةِ قُبْحِ ما صنعوا {وَأَنتُمْ ظالمون} حالٌ من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتمُ العجلَ ظالمين بعبادته واضعين لها في غير موضِعِها أو بالإخلال بحقوق آياتِ الله تعالى أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتُكم الظلمُ.
|